
في إحدى القرى بمحافظة المنوفية، نشأت أسرة كاملة تحت ظلال القرآن الكريم، حيث تربى الأبناء على حفظه وتعليمه، حتى أصبحت قصتهم مثالًا نادرًا في زمن يزدحم بالانشغالات ويقل فيه التفرغ للعلم الشرعي، عشرة أبناء، خمسة أولاد وخمس بنات، اجتمعوا حول كتاب الله، ليس فقط من خلال الحفظ، بل بالتخصص والتدريس والدعوة، ليصبحوا معلمين ومجازين ودعاة معروفين، قصة فريدة تعكس حياة أسرة جعلت من القرآن منهاجًا يوميًا ورسالة عمر.
«من الطفولة إلى التخصص.. حكاية بدأت من البيت».
إيثار سعد، أصغر أفراد هذه الأسرة، فتاة عشرينية تتحدث بفخر وامتنان، وفي حديثها مع «إقرأ نيوز»، قالت: «نحن عشرة إخوة، خمسة أولاد وخمس بنات، وأنا الأخيرة. جميعنا حفظنا القرآن في المرحلة الابتدائية، يعني وأنا في الصف الثالث أو الرابع كنت قد ختمته، وهذا ليس غريبًا في بيتنا».
وتضيف إيثار أن الأمر لم يكن مجرد صدفة أو اجتهاد فردي، بل كان خطة منهجية أعدها الوالد بحكمة الأب وتفرغ المربي، «كانت أمي تحفظنا وأبي كان يتابعنا، البيت كله قرآن، لم يكن هناك طفل يتجاوز الصف الثالث الابتدائي دون أن يختم القرآن، كان يرى أن من لا يختم القرآن لن ينجح في الدنيا أو الآخرة».
ورغم ذلك، لم تهمل الأسرة التعليم الأكاديمي، بل تمكن الأبناء من الجمع بين الحفظ والدراسة، «كلنا دخلنا معهد القراءات، وهو تعليم أزهري عميق، نبدأ فيه بتجويد، ثم عالية، ثم تخصص، يعني ندرس كل شيء عن القرآن من النحو إلى البلاغة إلى القراءات العشر».
تروي إيثار إحدى المفارقات، إذ لم يكن إخوتها فقط حفظة، بل كانوا من أصغر من عُيّنوا في مؤسسات دينية، وتقول: «إخوتي كانوا دائمًا متفوقين، ليس فقط في الحفظ، بل في الأداء والتجويد».
وتتابع: «تخيل أصغر شيوخ ومعلمي قرآن وقراءات تم تعيينهم في سن 15 و16 سنة، لأنهم أنهوا معهد القراءات مبكرًا، وكانوا متمكنين لدرجة أن الأزهر رشحهم للتدريس».
لكن في الوقت الذي كان يمكن لهذه النجاحات أن تتحول إلى شهرة، حرص الأب على إبقاء أبنائه بعيدين عن الأضواء، «أبي لا يحب الشهرة ولا الحديث الكثير، كان دائمًا يقول إن كل شيء له ثمن، وكان يحاول أن يحمينا من الغرور».
ما يميز هذه الأسرة هو أن القصة لا تتوقف عند الحفظ، بل تمتد إلى التعليم والتخصص والإجازة العلمية، حيث لكل واحد من الإخوة والأخوات مسار مرتبط بالقرآن.
وفي حديثها لـ«إقرأ نيوز»، تشرح إيثار هذا قائلة: «أخي الأكبر مدرس قراءات في معهد القراءات، وكان دائمًا يشارك في مسابقات ويمثل المعهد أمام المشيخة، والآخر أيضًا يعلم في بلدنا».
أما الأخ الثالث، فهو مسؤول عن الكتاتيب والتحفيظ في جنوب سيناء، «هو يدير ملفات التحفيظ والمعاهد والكتاتيب في الطور، ويتعلم أيضًا في معهد الطور النموذجي للقراءات».
وتضيف إيثار: «محمد حصل على ماجستير في أصول الدين، وعبدالله أصغر شاب تخرج في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر فرع سيناء، وأكمل في معهد القراءات أيضًا ويقوم بتحفيظ الطلاب حاليًا».
أما الأخوات، فلا يبتعدن عن المشهد، فجميعهن يعلّمن القرآن الكريم، سواء في المعاهد الدينية أو معاهد القراءات، أربع بنات غيري، كلهم يعلّمون، وليس فقط حفظ، بل أيضًا تجويد وقراءات، وبعضهن يحملن إجازات وسند متصل بالنبى ﷺ، ويدربن آخرين على الحصول على الإجازات أيضًا.
وتكمل: «بعضهن يعملن في القرى، ويساعدن النساء الكبيرات الحافظات للقرآن، وهناك من يدير حلقات (أون لاين) ويعلّمن أشخاصًا من الخليج والدول العربية، والجميل أن كل هذا بدأ من البيت».
وفي خلف هذا البناء الضخم، تقف الأم، السيدة الريفية البسيطة، التي كانت أول من علم أبناءها الحرف والنطق، رغم أنها حفظت القرآن عن طريق الراديو، حيث تقول إيثار: «أمي كانت تقرأ لنا، وتصحيح لنا، وصوتها كان دائمًا يرن في آذاننا: اقرأ صح، راجع، كرر».
وتضيف: «الغريب أنها لم تحفظ القرآن بالطريقة التقليدية، ولكن بسبب سماعها للراديو، وهي الآن تقرأ بالتجويد بإتقان، وتصحيح لنا أحيانًا إذا أخطأنا».
«القرآن ليس مجرد حفظ.. بل هو تربية».
ما يميز هذه الأسرة ليس فقط الحفظ الجماعي، بل الوصول إلى مراتب الإجازة والسند، «هناك اثنان من إخوتي يمنحون إجازات الآن، وكلنا لدينا سند متصل إلى النبي ﷺ، وهذا يتم عن طريق شيخ يجيز الطالب، وهو ليس سهلًا، بل يتطلب تمكّن وتجويد وفهم دقيق» تقول إيثار.
وترى أن الأسرة لا تعتبر الحفظ غاية في ذاته، بل وسيلة للفهم والخلق، «لا يوجد شيء اسمه حفظ فقط، يجب أن نفهم، ونعيش، وأن تكون أخلاقنا مستمدة من القرآن».
لم تتوقف القصة عند الأبناء العشرة، بل امتدت إلى الأحفاد، «الآن معظم إخوتي لديهم أولاد، ويقومون بتحفيظهم أيضًا، يعني بعد عدة سنوات، قد يكون لدينا 20 أو 30 حفيد حافظ» تقول إيثار بفخر.
«دور التحفيظ في المجتمع».
في القرى المصرية، لا تزال الكتاتيب تمثل مدرسة أولى للآداب والدين والانضباط، وتعتبر إيثار أن هذا الدور يجب أن يُدعم بقوة، «الذي يحفظ القرآن وهو صغير يخرج مختلفًا، قلبه أنظف، وعقله أهدأ، نحن بحاجة إلى إعادة احترام الكتاتيب، ونرى أنها مدرسة تربية وليس مجرد مكان للحفظ».
وتختتم إيثار، أصغر أفراد الأسرة، حديثها مع «إقرأ نيوز» بكلمات مليئة باليقين والسكينة، كأنها تلخص مسيرة عائلة اختارت أن تسير على نور الوحي لا على ضوء الدنيا، «من يتربى في بيت مليء بالقرآن لا يضيع، قد تفرقنا بعد مغادرتنا البيت، لكن كل واحد منا يحمل مصحفًا في حقيبته، وفي قلبه آية، وفي عقله صوت والدي وهو يقول: احملوا كلام ربكم وبلغوه للآخرين، نحن خرجنا من بيتنا، لكننا أخذنا معنا نورًا كبيرًا، نورًا لا ينطفئ».
تتوقف قليلاً، قبل أن تضيف بنبرة حانية: «ومن أراد أن يبدأ، فليبدأ بآية.. حتى لو آية واحدة كل يوم، ستغير الكثير، القرآن ليس مجرد حفظ، بل هو حياة كاملة، وكل حرف فيه يحيي القلوب».
كانت كلماتها كدعوة مفتوحة، لا تقتصر على أفراد أسرتها، بل تمتد لكل الناس.
- «معلومات الوزراء» تسلط الضوء على اهتمام المنظمات الدولية في مكافحة التلوث البلاستيكي: استراتيجيات وحلول مبتكرة
- اكتشف جمال كنيسة السيدة العذراء ومار جرجس: تحفة معمارية بيزنطية تنبض بالتاريخ
- فرص مذهلة لتوطين صناعة ألواح الطاقة الشمسية في مصر: أبرز ما جاء في تقرير 'معلومات الوزراء'
- «اتحاد الشركات: التأمين البحري المستدام ضرورة استراتيجية في عالم الأعمال»
- أمين البحوث الإسلامية: منهج علمي يجمع بين الشريعة والمعرفة في التعامل مع النوازل الفقهية