
افتتح الدكتور نظير محمد عيَّاد – مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- فعاليات المؤتمر العالمي العاشر للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء اليوم الثلاثاء، حيث يُعقد هذا العام تحت عنوان: «صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي»، ورحَّب مفتي الجمهورية بالضيوف من مختلف دول العالم، مُعبرًا عن اعتزازه الكبير بالدعم الذي يُقدمه الرئيس عبدالفتاح السيسي لهذا الحدث العلمي المتميز، مؤكدًا أن هذه الرعاية تمثل دعمًا مستمرًّا من القيادة السياسية لمسيرة الإفتاء الرشيد، وتهيئة بيئة علمية متقدمة تُعدُّ جيلًا جديدًا من المُفْتينَ القادرين على مواكبة التحولات الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي
كما أوضح مفتي الجمهورية أنَّ العالم اليوم يشهد تحوُّلات غير مسبوقة بفعل ثورة الذكاء الاصطناعي، التي أثَّرت بشكل جذري على مجالات متعددة مثل الطب والتعليم والإدارة، وفتحت آفاقًا جديدة للبحث العلمي وتطوير العمل المؤسسي، لكنه شدَّد على أنَّ هذه التطورات التقنية تستوجب توظيفًا مسؤولًا يخدم الإنسانية، خصوصًا في مجال الفتوى التي تتطلب توازنًا دقيقًا بين المرجعية الشرعية وأدوات العصر الرقمي، وأشار إلى أن الخطر يكمن في برمجة الفتوى دون ضوابط دقيقة؛ ما قد يحوِّل الدينَ من خطاب هدايةٍ إلى خطابٍ ماديٍّ جامد، ينفصل عن روحه وأهدافه.
وطرح المفتي مجموعةً من الأسئلة الفقهية الجوهرية المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى، مثل قدرة الآلة على فهم تعارض النصوص، ومراعاة النوايا الإنسانية، والسياقات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وأثر اختلاف الزمان والمكان في صياغة الفتاوى، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أداة مساعدة للمفتي، لا بديلًا عنه، بحيث يظل المفتي هو صاحب الرؤية المسؤولة، المبنية على خشية الله وبصيرة القلب وحكمة المقصد.
وشدَّد المفتي على أهمية تطوير الفتوى لتواكب تحوُّلات العصر الرقمي، حيث لا يكفي أن تكون دقيقة فحسب، بل يجب أن تحمل ضميرًا حيًّا ووعيًا أخلاقيًّا، مؤكدًا دَوْرَ المؤسسات الدينية في وضع أُطُرٍ رقابية وأخلاقية صارمة لإدارة نظم الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى، عبر إشراف هيئات علمية متخصصة تضم علماء شرعيين وخبراء تقنيين وفلاسفة الشريعة، لضمان شرعية المخرجات وموثوقيتها.
في السياق ذاته، أوضح مفتي الجمهورية أن إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى لا يمكن أن يكون بديلًا عن المفتي الرشيد، وإنما وسيلةٌ لتوسيع أدواته وتعزيز وعيه بمتغيرات العصر، محذرًا من مخاطر استحواذ الخوارزميات الجامدة على مرجعية الفتوى الدينية، وما قد يترتب على ذلك من ترويج لأقوال شاذة، وتشويه للوعي الديني، وفصلٍ للنصوص عن مقاصدها الشرعية والأخلاقية، كما أكَّد أن التعامل مع الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى ينبغي أن يكون بحذر عميق، وأن يظلَّ مرتبطًا بمركزية الإنسان بوصفه فاعلًا أخلاقيًّا ومجتهدًا مسؤولًا أمام الله والتاريخ، مشددًا على أن الأنظمة الذكية لا تملك خشية الله، ولا بصيرة القلب، ولا حكمة المقصد، وهي الأركان الأساسية التي تقوم عليها صناعة الفتوى الرشيدة.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يكون مفيدًا في المراحل التحضيرية للعملية الإفتائية، لا سيما في تصوير المسائل، وتحليل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، وجمع النصوص وتنظيمها، لكنه لا يملك صلاحية إصدار الحكم الشرعي الذي يظل منوطًا بالمجتهد الرشيد، القادر على الترجيح بين الأدلة، ومراعاة سياقات النوازل، لافتًا النظر إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه الفتوى في هذا العصر الرقمي هو ما يُعرف بـ«هلوسة الذكاء الاصطناعي»، حيث قد تنتج هذه النماذج فتاوى مختلقة بصياغة مقنعة، ما يُظهر ضرورة أن تظل المؤسسات الدينية حارسةً لشرعية الوعي، وقائدة لعلاقة واعية بين النص والآلة.
ودعا مفتي الجمهورية إلى ضرورة بناء نماذج ذكاء اصطناعي شرعية، مدرَّبة على قواعد الاستنباط، والضوابط اللغوية، وفهم المقاصد الشرعية، مع ضرورة إخضاعها لإشراف علمي مشترك بين علماء الشريعة وخبراء الذكاء الاصطناعي وفلاسفة المقاصد، مشيرًا إلى أهمية إنشاء منصات رقمية موثوقة للفتوى تخضع لمراجعة مستمرة من لجان شرعية مؤهَّلة، ويُحدد لعملها ميثاق أخلاقي خاص، على غرار ما هو معمول به في المجالات الطبية والقضائية.
وفي جزء مؤثر من كلمته، ركَّز مفتي الجمهورية على ما تتعرض له غزَّة من عدوان ممنهج، قائلًا: «إنَّ غزة اليوم ليست مجرد بلد منكوب يُعاني الجوع والتشريد وبطش الاحتلال، بل هي اختبار حقيقي لنبض الفقه، ومرآة لصدق كلمة الفتوى، وصيحة مظلومين لا يجوز أن تغيب عن ضمير الأمة»
وأشار إلى أن الفتوى في جوهرها ليست محصورة في مسائل العبادات، بل هي أداة لبناء الوعي، وغرس قيم العزة والكرامة والدفاع عن الأرض، داعيًا المُفتينَ والعلماء إلى عدم الصمت إزاء المظالم التي يتعرض لها أهل غزَّة، وفي هذا السياق، كشف فضيلة المفتي عن توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل مروِّع في استهداف سكان غزَّة، موضحًا أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدمه لتحليل الصور والتنبؤ بالتحركات واستهداف الأحياء بدقة قاتلة؛ ما أسفر عن سقوط آلاف الضحايا وتدمير البنية التحتية، وقال: «إن هذا المشهد يبرز خطورة التقنية إذا انفصلت عن القيم، ويؤكد الحاجة إلى وضع ميثاق عالمي يضبط استخدامات الذكاء الاصطناعي على أساس العدل والرحمة، وصيانة الكرامة الإنسانية»، مؤكدًا أن التقدم التقني إذا لم يصحبه ضمير أخلاقي، تحوَّل إلى أداة قمع وعدوان
كما وجَّه المفتي نداءً إنسانيًّا إلى أصحاب الضمائر الحيَّة في الشرق والغرب، قائلًا: «ارحموا عجز أهلِ غزَّة، فإنَّ لهم عند الله موقفًا يُقتصُّ فيه من الطغاة الذين سفكوا دماءهم ودمَّروا بيوتَهم، وشرَّدوا مَن بَقِيَ من أطفالِهم ونسائِهم وشيوخِهم»، كما وجَّه تحيةً إجلالٍ لأهل غزة الصامدين، القابضين على جمر الكرامة، وبشَّرهم بأنَّ النصر آتٍ لا محالة، وإن تأخرت بوادره أو بعدت أسبابه
وفي خلال حديثه عن الموقف المصري، أكَّد مفتي الجمهورية أنَّ مصر ما زالت تؤدي واجبها التاريخيَّ تجاه القضية الفلسطينية بوعيٍ وشرف، على الرغم من الهجمة الشرسة التي تستهدف دورها، مشيرًا إلى أن القيادة المصرية رفضت بكل وضوح محاولات تهجير الفلسطينيين أو تصفية قضيتهم، وتمسَّكت بحقوقهم الثابتة في وجه الابتزاز السياسي، في موقف سيخلِّده التاريخ بمِداد الشرف والكرامة.
وفي ختام كلمته، توجَّه المفتي بالشكر إلى العلماء والوزراء والمُفتين المشاركين في المؤتمر، كما عبَّر عن تقديره العميق للجهات الرسمية والتنفيذية والإعلامية التي ساهمت في نجاح فعاليات المؤتمر.
- محافظ الشرقية: المؤتمر العاشر للإفتاء يعزز الدور الوطني في نشر ثقافة الوسطية
- 68 شاحنة مساعدات إماراتية وكويتية تعبر إلى قطاع غزة: دعم إنساني في أوقات الحاجة
- قافلة 'زاد العزة' تصل غزة محملة بـ 3450 طن من المساعدات الغذائية والطبية في يومها الثالث عشر
- وزير الأوقاف يؤكد: القضية الفلسطينية تظل في صميم أولوياتنا ونرفض محاولات التهجير
- محافظ القاهرة يشارك في مؤتمر عالمي لدار الإفتاء حول 'صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي'