خلال الأسبوع الماضي، شهد ميناء أبوقير البحري في الإسكندرية عملية انتشال عدد من القطع الأثرية المميزة، من بينها تمثال كبير مصنوع من الكوارتز على شكل أبو الهول يحمل خرطوش الملك رمسيس الثاني، وتمثال آخر من الجرانيت لشخص غير معروف من أواخر العصر البطلمي، بالإضافة إلى تمثال من الرخام الأبيض يعود لرجل رومانى من طبقة النبلاء، إلى جانب قطعة أثرية أخرى.

وفي هذا السياق، أكد الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، على الأهمية الكبيرة لموقع أبوقير الأثري، الذي يمثل شاهدًا حيًا على عظمة وتاريخ حضارة مصر العريقة، مشيرًا إلى أن انتشال هذه القطع الأثرية من مياه البحر المتوسط يأتي بعد مرور ٢٥ عامًا على آخر عملية مماثلة في مصر، والتي تمت بعد توقيعها في عام ٢٠٠١ على اتفاقية «يونسكو» الخاصة بالحفاظ على التراث الثقافي المغمور بالمياه.

كما أشار الأمين العام إلى استمرار أعمال البحث والتنقيب تحت الماء في الموقع للكشف عن المزيد من أسرار أبوقير، كاشفًا أن من بين الاكتشافات المرتقبة هناك سفينة أثرية سيتم الإعلان عنها قريبًا، وذلك بعد استكمال أعمال الكشف والدراسة العلمية المتكاملة لها، حيث تؤكد أعمال المسح والدراسة أن الموقع يمثل مدينة متكاملة تعود للعصر الروماني، تضم مباني ومعابد وصهاريج مياه وأحواض لتربية الأسماك، بالإضافة إلى ميناء وأرصفة أثرية، مما يشير إلى أنه امتداد للجانب الغربي من مدينة كانوب الشهيرة، التي تم اكتشاف جزء منها شرق المنطقة، كما تكشف الشواهد عن استمرارية حضارية عبر عصور متعددة تشمل (المصري القديم، والبطلمي، والروماني، والبيزنطي، والإسلامي).

وقد أسفرت أعمال البحث عن العثور على مجموعة كبيرة من الشواهد الأثرية المهمة، من أبرزها «أمفورات» تحمل أختامًا للبضائع وتواريخ إنشائها، وبقايا سفينة تجارية محملة بالجوز واللوز والمكسرات، بالإضافة إلى ميزان نحاسي كان يُستخدم للقياس، فضلاً عن تماثيل ملكية وتماثيل لأبي الهول، ومجموعة من تماثيل الأوشابتي، ومرساوات حجرية، وعملات من العصور البطلمية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، إلى جانب أوانٍ وأطباق فخارية ورصيف بحري يمتد بطول ١٢٥ مترًا.

يمثل الاتجاه إلى البحث عن الآثار المغمورة بالمياه نقطة تحول محورية في دراسة الحضارات القديمة، حيث أزاح الستار عن جوانب من التاريخ الإنساني كانت مخفية تحت سطح الماء لقرون، وتؤكد الدلائل التاريخية على غوص الإنسان ومحاولته اكتشاف أعماق المياه لأسباب متعددة، من بينها ما ورد في نص للفيلسوف «أرسطو» الذي يروي كيف غاص تلميذه «الإسكندر الأكبر» في أعماق البحر في برميل زجاجي، ربما لاستكشاف الدفاعات المغمورة المحيطة بمدينة صور أثناء حصارها.

وقد كانت الآثار تُنتشل من تحت الماء، حيث تشير إلى ذلك لوحة مكتشفة في معبد هرقل قرب أوستيا بإيطاليا، والتي ترجع إلى القرن الأول قبل الميلاد، والمحافظة عليها بمتحف «جوردان شنيتزر» للفنون في الولايات المتحدة الأمريكية، وتصور مجموعتين من الصيادين يسحبون شبكة تحتوي على سفينة وأسماك وتمثال لهرقل. كما ساهم اختراع الخوذة النحاسية بواسطة الأخوين «جيمس وتشارلز دين» في تسهيل الغوص والكشف عن الآثار المغمورة بالمياه في الفترة ما بين عامي ١٨٣٠ و١٨٤٠، بما في ذلك حطام سفينة «مارى روز» بالقرب من بورتسموث بإنجلترا.

بعد محاولات عديدة للكشف عن سفينتي «كاليجولا» ببحيرة نيمى بإيطاليا بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، أمر «موسوليني» في عام ١٩٢٩ بتجفيف البحيرة والعمل على السفينتين واستخراجهما، وكان «جويد يوشيللي» مديرًا لأعمال الحفائر آنذاك. وفي عام ١٩٠٠، اكتشف غواصو الإسفنج السفينة «أنتيكيثيرا ٨٠ – ٥٠ ق.م» بالقرب من جزيرة أنتيكيثيرا في اليونان، وتم العمل عليها بشكل علمي منظم منذ ١٩٠١، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُشرف فيها أثرى على العمل، الذي استمر على مدار مواسم حفائر متقطعة حتى الآن.

في عام ١٩٣٧، اخترع «لو بريور» جهاز غوص أطلق عليه «الرئة المائية»، الذي قام كل من «إيميل جانيان» و«جاك إيف كوستو» بتطويره بين عامي ١٩٤٣ و١٩٤٦، حيث قدما نظام الغوص الذاتي «SCUBA» للعالم، ما أتاح للغواصين الكشف عن أعماق المياه والعمل بها بسهولة، مما مكّن «كوستو» من الغوص على سواحل جنوب فرنسا والكشف عن العديد من حطام السفن الغارقة، بما في ذلك سفينتا «جراند كونجوليه» بمرسيليا التي عمل عليهما بين عامي ١٩٥١ – ١٩٥٧، وفي أماكن أخرى بالبحر المتوسط، كما كان له الفضل في الكشف عن السفينة «ثيسل جورم» في عام ١٩٦٥، التي غرقت أثناء الحرب العالمية الثانية بخليج السويس بالقرب من رأس محمد.

شهدت تقنيات التنقيب عن الآثار المغمورة بالمياه تطورًا كبيرًا في العقود الأخيرة بفضل إدماج التكنولوجيا الحديثة، مثل التصوير السوناري والتصوير ثلاثي الأبعاد، مما مكن الباحثين من توثيق المواقع الغارقة بدقة غير مسبوقة، ومنح التراث الثقافي المغمور بالمياه في مصر مكانته المستحقة في سياق السرد التاريخي للحضارات.

كانت بداية التراث الثقافي المغمور بالمياه في مصر في عام ١٩٠٨، عندما عثر المهندس الفرنسي «مالفال»، مدير الموانئ والمنائر، على بقايا ميناء غارق بميناء الدخيلة غرب الإسكندرية، ثم كشف خلفه «جاستون جوندية» عن حواجز قديمة بميناء الإسكندرية الغربي في عام ١٩٠٩، ربما كان ذلك الميناء الذي ذكره هوميروس في «الأوديسية».

بين عامي ١٩٣٣ و١٩٤٢، قام الأمير «عمر باشا طوسون» بالعمل في خليج أبوقير، وحدد موقع ضاحية شرق كانوب بمعابدها ومنشآتها، حيث حدد على الخريطة مسار فرع النيل الكانوبى المندثر. كما كان لكامل أبو السعادات، الغواص المصري، خلال الفترة ما بين ١٩٥٧ – ١٩٨٤، الفضل في إعداد أول خريطة للميناء الشرقي موضح عليها مواقع الآثار الغارقة، حيث تمكن من الكشف عن تمثال ضخم للملكة البطلمية بجوار قلعة قايتباي، وحطام أسطول نابليون ضمن غيرها بخليج أبوقير.

كما أعاد «جاك دوما» والبحرية الفرنسية بالتعاون مع البحرية المصرية وغواصين مصريين وتحت إشراف هيئة الآثار المصرية اكتشاف «سفينة لوريان»، وهي سفينة القيادة لأسطول نابليون و٣ سفن فرنسية أخرى على عمق ١١ مترًا في خليج أبوقير، وتم التنقيب أيضًا عن «لوباتريوت»، وهي أول السفن التي غرقت من الأسطول، بالقرب من العجمي غرب الإسكندرية، وتم انتشال قطع أثرية مختلفة من كلا الموقعين بين عامي ١٩٨٣ و١٩٨٦.

رغم أهمية الكشوف التي تمت في مصر خلال القرن العشرين والجهود التي بذلها المستكشفون في مجال الآثار المغمورة بالمياه، إلا أنه ظهرت الحاجة لإنشاء إدارة تهتم بهذا المجال وتديره بطريقة علمية منظمة، لذا تم تأسيس الإدارة العامة للآثار الغارقة في عام ١٩٩٦، حيث تركزت مهامها على اكتشاف التراث الثقافي المغمور بالمياه في مصر على أسس علمية، سواء بشكل مستقل أو بالتعاون مع العديد من البعثات الأجنبية.

عملت الإدارة بمفردها في عدة مواقع، بما في ذلك خليج المعمورة شرق الإسكندرية، حيث تم الكشف في عام ٢٠٠٠ عن عدة نقاط لرباط السفن من الحجر الجيري ومزارع سمكية من العصر الروماني، وموقع جزيرة ألفنتين بأسوان، حيث تم العثور على بقايا سور معبد خنوم وبقايا مقصورة لبطلميوس السادس. كما تم الكشف عن رصيف ميناء كان يُستخدم في نقل الحجارة من محاجر السلسلة شمال أسوان في عام ٢٠٠٧، وكذلك ميناء الملك خوفو بوادي الجرف بالبحر الأحمر منذ عام ٢٠١٦.

عملت بعثة المركز الفرنسي للدراسات السكندرية على موقع فنار الإسكندرية القديم منذ عام ١٩٩٤، وبعثة المعهد الأوروبي للآثار البحرية التي كشفت عن الحي الملكي الغارق بالميناء الشرقي منذ عام ١٩٩٥، وبخليج أبوقير بموقعي مدينتي كانوب وهيراكليون منذ عام ٢٠٠٠.

تضم العديد من المتاحف المصرية معروضات من الآثار المكتشفة بالمياه، مثل متحف الإسكندرية القومي، ومتحف مكتبة الإسكندرية، ومتحف السويس القومي، والمتحف اليوناني الروماني، والمتحف المصري الكبير، والمتحف المفتوح بالمسرح الروماني، ولم يقتصر الأمر على العرض داخل مصر، بل طافت مجموعات منها العديد من بلدان العالم في معارض متنقلة بدءًا من عام ١٩٩٨.

تسلط العديد من الدراسات والبحوث الضوء على التراث الثقافي المغمور بالمياه، حيث يُعد الاعتراف به والترويج له وتفسيره جزءًا لا يتجزأ من المسؤولية المجتمعية ككل لتعزيز التراث الثقافي والحفاظ عليه. وتم إعلان «ميثاق إيكوموس» حول حماية وإدارة التراث الثقافي المغمور بالمياه في عام ١٩٩٦، الذي يهدف لوضع القواعد الفنية للعمل على الآثار المغمورة بالمياه، وفي عام ١٩٩٧، ناقشت منظمة «يونسكو» مشروع اتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه، حيث عرّفت فيه التراث الثقافي المغمور بالمياه على أنه: «جميع آثار الوجود الإنساني التي تتسم بطابع ثقافي أو تاريخي أو أثري والتي ظلت مغمورة بالمياه بصورة دورية أو متواصلة لمدة مائة عام على الأقل».

وقد أقرّت «يونسكو» الاتفاقية في عام ٢٠٠١، وصادقت مصر عليها في ٢٠١٧، وكان لها دور فعّال في مناقشتها، كما كانت أيضًا صاحبة مقترح بتخصيص يوم عالمي للتراث المغمور بالمياه، الذي أقره المجلس التنفيذي للمنظمة الدولية في عام ٢٠٢٤.