في أحد البيوت البسيطة في القاهرة، كان الصمت هو اللغة اليومية، حيث أصبح على، أصغر الأبناء، بمثابة “الأذن” لإخوته الثلاثة من الصم، يجلسون جميعًا أمام شاشة التلفزيون، ينظرون إليه بترقب، في انتظار أن يفسر لهم ضحكاته وتأثره بمشهد أو لقطة ما.

وبدأت رحلة رضا عبدالمنعم مع لغة الإشارة بخطوات بسيطة، حيث أصبح بعد سنوات طويلة أول مذيع بلغة الإشارة في التلفزيون المصري، ووجهًا رسميًا للمؤتمرات الرئاسية، كانت وصية والده له “أنت ودن إخواتك.. بلغهم على قد ما تقدر”، التي ظلت تردد في أذنه، وصارت قاعدة حياته، ومن المنزل إلى الجمعيات الأهلية، وجد نفسه يترجم العروض للصم وضعاف السمع على خشبة المسرح.

بعد تخرجه في معهد الخدمة الاجتماعية عام 1990، حصل مباشرة على وظيفة في جمعية الصم والبكم، ليبدأ مشوارًا مهنيًا مرتبطًا بخدمة هذه الفئة، وبعد أربع سنوات، جاء التحول الثاني في حياته عندما طرقت إحدى الشركات العالمية العاملة في مجال المطاعم باب الجمعية، حيث كانت الفكرة مبتكرة: افتتاح مطعم يعمل فيه فريق كامل من الصم والبكم، وقع الاختيار على رضا ليقوم بتجهيز الشباب والفتيات، حيث قام بترجمة استمارات التقديم وتدريبهم، ليكتشف لاحقًا أن الشركة تطالبه بإدارة المشروع

وهكذا، نشأ على يديه أول مطعم يدار بالكامل من الصم في الشرق الأوسط والثاني على مستوى العالم، وقد حصل المشروع على جوائز وتكريمات داخل مصر وخارجها، وتوسعت التجربة لتصل إلى ستة مطاعم، وبالتزامن مع نجاح هذه التجربة الفريدة، قادته الأقدار إلى شاشة التلفزيون، حيث كان ظهوره الأول عام 1993 على القناة الثالثة، قبل أن يصبح في 1999 أول من يترجم نشرات الأخبار في برنامج “صباح الخير يا مصر”، ومن هناك، تنقلت خبرته بين البرامج واللقاءات، حتى ترجم في 2013 لقاءات المرشحين للرئاسة.

يؤكد رضا أن جمهور الصم والبكم شغوف بمتابعة البرامج والأخبار وكل ما يُترجم بلغة الإشارة، ويشرح أن “لغة الإشارة نفسها لها مستويات: الترجمة الفورية، والتتبعية، والتفاهم المباشر”، ويضيف في تصريحات لـ”إقرأ نيوز”: “مصر أصل لغة الإشارة في العالم العربي، هنا نشأت مدارس الصم والبكم منذ عشرات السنين، ومنها خرجت الخبرات والتجارب”، لم تتوقف مسيرته عند البرامج والنشرات، بل امتدت إلى منصات السياسة الدولية، حيث ظهر على شاشات المؤتمرات الرئاسية منذ ما بعد ثورة يناير وحتى القمم الكبرى، من حملة الرئيس عبدالفتاح السيسي الانتخابية وحتى اللقاءات الدولية الأخيرة

يقول رضا إنه أصبح مسؤولًا عن ملف الترجمة في رئاسة الجمهورية، ويشارك مع زملائه في المؤتمرات، وآخرها القمة التي جمعت الرئيس السيسي بنظيره الرواندي، لكن بين الكاميرا والأضواء، يظل همه الأكبر أن يكون الصم جزءًا من المجتمع، لا مجرد متفرجين معزولين، مضيفًا: “من حق الأصم أن يعرف كل ما يجري، ليس فقط نشرات الأخبار أو البرامج الدينية، بل حتى التوك شو، حيث تُناقَش القضايا اليومية التي تهم كل أسرة”

يستشهد ببرامج عمرو أديب، موضحًا أن “الأصم اليوم غائب عن هذه النقاشات رغم أنها ترسم وعي الناس”، ويرى أن اليوم العالمي للغة الإشارة، الذي يحتفل به العالم في سبتمبر، مهم لكنه غير كافٍ: “الأهم أن يكون المترجم حاضرًا طوال الوقت، لا مجرد فقرة في يوم واحد”، اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود أمام الكاميرا، يجلس رضا عبدالمنعم ثابتًا، يترجم الأخبار والسياسة والبيانات بلغة بسيطة تصل إلى قلوب ملايين المشاهدين الصامتين

يعرف أنه مجرد جسر بين عالمين، لكنه جسر صلب وضروري، يفتح بابًا للمعرفة ويمنح الصم شعورًا بأنهم حاضرين في المشهد، “أنا مجرد صوت وصل بين عالمين.. ولسه مؤمن إن اللي جاي لازم يكون أفضل”.