منذ طفولتي، كنت أراقب جارتي «حنان» التي فقدت السمع والنطق في حادث، وكان لهذا المشهد تأثير عميق على وجداني، كنت أتساءل في نفسي: كيف سأفهم ما يُقال في التلفزيون إذا كنت مثلها؟ هذا السؤال رافقني حتى أصبح دليلي في الحياة، لأصبح أول مترجمة لغة إشارة في التلفزيون المصري، وأكرس مجهودي لمساعدة الصم والبكم على فهم ومتابعة ما يحدث على الشاشة

تروي الدكتورة هالة محفوظ لـ«إقرأ نيوز» كيف بدأت رحلتها، مشيرة إلى أن الشرارة الأولى جاءت من سؤال طفلة صغيرة لوالدتها: “لماذا لا يوجد مترجم للصم في التلفزيون؟” كان هذا السؤال البسيط كافيًا لإثارة إحساسها بالمسؤولية، وتحويل فضولها إلى التزام ورسالة، ومع مرور الوقت، أصبحت أول مترجمة لغة إشارة تظهر على شاشة التلفزيون المصري، وحصلت على لقب «الأم الروحية» للصم وضعاف السمع

دخلت عالم الصم منذ صغري، حيث كنت أذهب إلى مدارسهم، أحضر حفلاتهم، وأتابع أنشطتهم، مما جعلني أشعر بفرحهم وأحزانهم، هذه التجربة المبكرة قربتني منهم بشكل طبيعي، فالمترجم ليس مجرد ناقل للكلام، بل يجب أن يعيش انفعالات المحتوى؛ فأسلوب الترجمة يختلف تمامًا بين برنامج أطفال وبرنامج سياسي أو نشرة أخبار، والمترجم الذي يفتقر إلى التعبير الوجهي يفقد لغة الإشارة جزءًا كبيرًا من روحها.

في عام 1990، قدمت أول برامجي «حديث الأصابع» الذي استمر عشرين عامًا، وكان أول برنامج متكامل بلغة الإشارة في التلفزيون المصري، وقد أصبح نموذجًا يحتذى به في العالم العربي، حتى أن مذيعين ومترجمين في دول أخرى اقتبسوه، وكتب عنه صحف محلية وعالمية، كما طلبت سناء منصور أن يظهر البرنامج على الفضائية المصرية، ومن هنا بدأ العرب جميعًا يتابعونه، لم أقدمه فقط لإظهار مشاكل الصم، بل أردت أن يراهم المجتمع قويين، وأن يكون البرنامج جسرًا يربط بينهم وبين الناس العاديين، بحيث يشاهد الطرفان معًا.

رحلتي الأكاديمية كانت مرتبطة دائمًا بعملي الإعلامي، حيث تناولت رسالة الماجستير الخاصة بي “لغة الإشارة في الرسالة الإعلامية”، فيما تناولت رسالة الدكتوراه “دور الرسالة الإعلامية في الدمج المجتمعي لذوي الإعاقة”، ومن خلال هذا التوجه العلمي، قدمت برامج دمج للأطفال، مثل «إشارة حب» الذي جمع بين الأطفال ذوي الإعاقات السمعية والبصرية والذهنية، وعلّمت الأطفال العاديين لغة الإشارة وطريقة برايل.

كنت مؤمنة دائمًا بأن أي نهضة حقيقية تبدأ من الطفل، ولهذا حرصت على أن ينشأ الأطفال على معرفة بلغات إنسانية متنوعة تفتح لهم آفاقًا أوسع.

خلال مسيرتي، حصلت على جوائز وتكريمات عدة داخل مصر وخارجها، ومنها الجائزة الذهبية في مهرجان الإذاعة والتلفزيون العربي عن «حديث الأصابع»، وتكريم من البنك الدولي ووزارة الإعلام، كما شاركت في تدريب مترجمين ودورات متخصصة بالسعودية ولبنان ودول عربية أخرى لنشر لغة الإشارة، بالإضافة إلى تقديرات من جمعيات أهلية وجامعات مصرية وعربية.

لكن عملي لم يقتصر على الشاشة والبحث الأكاديمي فقط، فمنذ عام 1990 خصصت وقتًا أسبوعيًا للقاء الصم وأسرهم وحل مشاكلهم، حتى لقبوني بـ«الأم الروحية»، ولا أنسى يومًا تجمهر أولياء الأمور أمام مبنى التلفزيون، حيث قالوا لي: “أولادنا في الجامعة ومفيش مترجمين، ولو سقطوا هيتفصلوا”، فقررت أن أرافقهم إلى الكلية وجلست مع الأساتذة، ومنذ تلك اللحظة قررت مرافقة 14 طالبًا حتى تخرجوا، وفي الجامعة كانوا ينادونني “يا ماما” بدلًا من “يا دكتورة”، وكنت معهم في المحاضرات والامتحانات، حتى إن بيتي تحول إلى قاعة دراسة أثناء فترة كورونا

وتضيف: من المهم أن يتعاون الخبراء والجمعيات لتنظيم أيام تثقيفية للأطفال، يتعرفون خلالها على نشأة طرق معينة أو بدايات لغات، فهذه الخلفية الثقافية تصنع فرقًا كبيرًا، فنكتشف بين الأطفال من لديهم استعداد وحب حقيقي للموضوع، وقد يحمل أحدهم التجربة معه عندما يكبر، ويتحمل مسؤولية تقديم شيء جديد لذوي الإعاقة، أو يساهم في تذليل بعض العقبات التي تواجههم

وتواصل: من بين التكريمات التي أعتز بها، حصلت على جائزة عالمية من اليونسكو وشهادة تقدير خلال أسبوع المرأة والفنانين، وكان ذلك بترشيح من الدكتور هشام جابر نائب رئيس الجامعة، الذي قال لي إن ما أبذله مع الأولاد مجهود خرافي، وفي نهاية السنة حين نجح الطلاب، سألني: تحبين أن تطلبي ماذا؟ فطلبت أن نخرج جميعًا في يوم ترفيهي وثقافي، وبالفعل نظموا لنا رحلة إلى مدينة العلمين الجديدة، وهناك شاهدنا التطور الكبير الحاصل في المنطقة

وتضحك وهي تستعيد إحدى المفاجآت في الرحلة: فوجئنا أن المسؤول عن أحد المتاحف هناك أصم، وكان ذلك من المواقف المؤثرة جدًا بالنسبة للطلاب، وتختتم: الحمد لله حصلت على تكريمات عديدة، سواء من اليونسكو أو من اللجنة العليا لشؤون الإعاقة، حيث تم منحي لقب خبير لغة إشارة، بجانب العديد من الشهادات والتقديرات من هيئات محلية ودولية

وتختم حديثها لـ«إقرأ نيوز»: “التكريمات مصدر اعتزاز طبعًا، لكن يبقى الهدف الأساسي هو الاستمرار في الرسالة، كل ما أتمناه أن أترك أثرًا حقيقيًا في حياة ذوي الإعاقة وأسرهم، وأن أكون قد ساهمت في فتح الطريق لأجيال جديدة تحمل نفس الرسالة وتكمل ما بدأناه”